مــــــــــهـــــــدي عــــــــامــــــل

صفحة تختص بالمفكر الماركسي الشهيد مهدي عامل

كلمات حول كتب مهدي عامل الأخير “نقد الفكر اليومي”


كلمات حول كتب مهدي عامل الأخير “نقد الفكر اليومي”

المصدر: http://alexandra.ahlamontada.com/t1529-topic

قدّم مهدي عامل، الذي إغتيل في أيار 1987، صورة عن إيمانية ثورية، اطمأنت إلى قوة «النظرية»، وإلى قدرة المؤمن بها على إقامة الحد الفاصل بين الصحيح والخطأ. اعتقد الراحل أنه يمشي مع نظرية تمشي مع «التاريخ» وتشرح خطواته بلغة واضحة. ولعل تماهي الثائر بالنظرية، كما تماهي اللبناني بالتاريخ، هو الذي جعله يؤثث مدينة جميلة لا وجود لها. أخلص لذاته وهو يخلص لـ «الكتب» وأخلص، في الحالين، لنسق من الحالمين لا ينتهي .

فتنة النظرية

كتب الماركسيون اجتهادتهم بأساليب متعددة، اقترب بعضها من نثر الحياة، وآثر بعض آخر لغة من خشب. وُعدوا، في الحالين، بمدينة تنصف الأحياء، وترد الاعتبار إلى أموات جمعوا بين الأحلام والخيبة. أراد مهدي عامل، الذي صالح بين العربية والفرنسية، أسلوباً خاصاً به، يوحّد بين العلم والإيمان، إذ العلم ماركسية قوامها جهاز نظري يقرأ الظواهر في أسبابها المادية ـ وإذ الإيمان ماثل في طبقة متحزّبة تحرّر البشرية كلّها.

رأى مهدي، وهو يقتفي آثار غيره، في الفلسفة والسياسة وحدة لا تقبل الانقسام، يصوغ كل طرف غيره ويعلن عن جديد غير مسبوق. اشتقت الفلسفةُ السياسيةَ من «صراع الطبقات»، الذي يضع البروليتاريا في مواجهة البرجوازية وينتج استقطاباً اجتماعياً متجدداً، ونقدت السياسةُ الفلسفةَ وطالبت الفلاسفة بتحويل العالم لا بتأويله. ترجمت هذه العلاقة المتبادلة جديد الماركسية، القائل بوحدة المادية التاريخية والطبقة العاملة. وسواء غمر الإيمان النظرية أم ترك أطرافها ظاهرة، فقد استقر فيه موروث تنويري عنوانه: الإرادة العقلانية، التي تجلّت في اتجاهين: تشييد تصور عقلاني للعالم، يجعل الأخير واضحاً شفافاً قابلاً للتحويل والترويض، وإعادة تقويم «التصورات اللاعقلانية» من وجهة نظر النظرية ـ المثال جمعت الإرادة المتعقلنة، أو العقل الخالص المتشخصن في إرادة مقاتلة، بين أسطورة «بروميثيوس»، الإنسان المنعتق من القيود كلها، وأشياء من فلسفة ديكارت، الذي حلم بطبيعة جديدة الصنع، يعيد خلقها الإنسان ويسيّرها كما يشاء. بدا مهدي، وهو ينبذ المسيطر ويستقوي بالحقيقة، مهندساً ـ فيلسوفاً، يقترح مدينة فاضلة ويشرح سبل بنائها، ويدعو إلى اقتلاع مدينة الاستغلال والطائفية والتبعية، … عاش توتر العلاقة بين العلم والإيمان، وجعل من أسلوبه مرآة لحالم كبير، تحتاجه النظرية ولا يحتاجها في شيء كثير.

يعطي كتابه الأخير: «نقد الفكر اليومي»، الذي لم يتح له الموت إكماله، صورة عن إيمانية مطلقة، يفصح عنها السياق قبل الأسلوب، ذلك أنه أكد انتصار الفكر الماركسي حين كان يقترب من هزيمة كاسحة. ساوت الإيمانية بين النظرية والانتصار، وساوى العقل الانتصاري بين النظرية والمنتمي إليها، كما لو كان الحق قد تشخصن في النظرية والمناضل معاً. ولهذا أخذت النظرية على قلمه صفات متعددة، فهي: «الفكر المناضل، اليانع أبداً، اليقظ الدائم، لا يتخاذل حين يفاجأ، ….، يؤكد ضرورة الفكر العلمي في أن يكون ثورياً، وضرورة الحركة الثورية في أن تكون علمية ..ص : 15». تتكشّف شخصنة النظرية في تعبير «لا يتخاذل حين يفاجأ»، الذي يشير إلى المناضل مهدي عامل، بعيداً عن أيديولوجية شعاراتية تحيل إلى بيروقراطية متكلسة أتقنت «عادات القيادة» أكثر مما أتقنت أي شيء آخر .

قال مهدي بماركسية يضمن انتصارها سببان: علميّتها التي تفسر تكوّن الظواهر الاجتماعية وتحولاتها، اعتماداً على مبدأ التميّز والكونية الذي يشتق من ماركسية كونية ماركسيات توائم مجتمعات متفاوتة التطور، فهو يقول: «حين يقوم الفكر بتحليل ملموس للواقع الملموس، يسير إلى ملاقاة هذا الواقع في مخاطرة هي ضرورية لانتاج المعرفة، لا يجرؤ عليها سوى فكر مادي عرف كيف يصغي إلى الواقع ويحتكم إلى منطقة الموضوعي، … ص: 40». يشخصن مهدي «الفكر المادي» متحدثاً عن «الجرأة» و«الإصغاء»، كما لو كان الفكر المادي لا يفصح عن خصوبته إلا عند مفكّر يتمتع بالجرأة ويجيد الإصغاء. يصدر السبب الثاني عن «روح العصر»، التي هي من روح «الفكر المادي»، أو صورة عن «الفكر العلمي»، الذي هو قوام الزمن الحديث. نقرأ: «هو العصر وهذي حداثته، أن تعمّ فيه انهيارات الكهانة والقداسة والسيادة». الماركسية هي فلسفة «عصر الثورات»، الذي هزم عصراً آخر، وهي المعرفة الدقيقة التي تبصر في أفق الحاضر مدينة فاضلة: «سرْ في الزمن الثوري وحدّق فيه بعين الفكر العلمي، ترى الواضح في الآتي، يستقدمه الحاضر بمنطق تناقضاته…».

حين يقرأ الإنسان الثوري واقعه «بعين الفكر العلمي» يرى الزمن القادم ويصبح امتداداً للفكر العلمي في آن. استولد مهدي ضمانه المزدوج من علاقات ثلاث تتبادل المواقع: العلم، الثورة، الطبقة العاملة، إذ سياسة الطبقة العاملة هي العلم وسياسة نقيضها هي الجهل، وإذ علم الطبقة العاملة هو الثورة وإذ الجهل فكر الثورة المضادة. وصل، رغم حديثه عن التحليل الملموس في شرط ملموس، إلى فكرة «الجوهر» التي تختصر الوقائع إلى كلمات، حيث الطبقة العاملة ـ هي الفلسفة التي تحيل عليها، وحيث «الطبقة الثورية» وعي تحرّر من الزيف وأطياف الكهانة. وواقع الأمر أن الضمان المزدوج، الذي يبث لغة انتصارية، قائم في إيمانية مهدي قبل غيرها. فقبل عشر سنوات من كتابه «نقد الفكر اليومي» ـ 1987 ـ كشف الفرنسي آلتوسير عن «أزمة الماركسية»، وكان الإيطالي الشهير لوتشو كوليتي قد أصدر كتابه «أفول الماركسية».

لا يمس السؤال المطروح التملّك المعرفي في شيء، فهو يبدأ وينتهي بـ «العقل الطوباوي»، الذي يستبدل بالمدينة القديمة مدينة جديدة، أو يدور حول «المثقف الرسولي»، الذي يعهد إلى ذاته بإصلاح العالم متماهياً، دون أن يدري، بالشاعر الرومانسي الذي يتماهى بالحقيقة. ولهذا شخصنّ مهدي، في زمن الانهيار، النظرية التي لا تقبل بالشخصنة، محاولاً أن يبث النار في الرماد، ومعتصماً بروح رومانسية أوصدت النوافذ الخارجية واكتفت بنافذة القلب. فهو يكتب: «لا يكتب التاريخ إلا قادر على قراءته، من هذا الواقع الذي يتكشّف منه لعين الفكر الثوري النافذ في الأحداث إلى عقل الأحداث، ص :21 «. يلتبس «العقل الطوباوي» بالنظرية ويتساوى بها، ويتقدم خطوة اخرى ليلتبس بـ «الأحداث وعقل الأحداث». وإذا كان لوكاتش قد ساوى في كتابه «التاريخ والوعي الطبقي» بين الطبقة العاملة والوعي الحقيقي، فقد ساوى مهدي عامل بين المفكر الثوري والواقع المادي الواجب تغييره منتهياً، إلى نتيجة غريبة تقول: ليس الواقع إلا أثراً لعين الفكر التي تراه، ولهذا يكون: «تملّك الواقع التاريخي هو قبض أو محاولة قبض على الأساسي المحتجب فيه، …، في ملحمة استنباط الأدوات القادرة على ترويض الواقع ..»، على اعتبار أن السيطرة على الواقع من سيطرة الفكر النظري عليه. تستدعي النتيجة «الفكر الإرادوي»، بلغة معينة، أو «المثالية الخالصة»، بلغة أخرى، لكنها تستدعي أولاً الفكرة الرومانسية القائلة بـ «الخلق»، حيث ما يراه الشاعر ينجزه المستقبل، بلغة الفيلسوف الألماني شلنغ.

اليقين الثوري

جمع مهدي، في كتابه الأخير، بين راحة اليقين وعبء النزعة الرسولية، إن لم يكن اليقين قوام النزعة وتتويجاً لها، فلا رسالة بلا كتاب يبشّر بالرسالة، ولا رسالة بلا دليل يتحالف مع قلبه ولا يكترث بالجهات. يقول: «بين العلم والجهل، لا يقف الفكر حائراً، ينتصر الأول، إلا إذا هيمن فيه الجهل، فهو، إذّ ذاك، ليس بالفكر، بل عدمه. ص : 21». لا موقع لتناقض الفكر، أو لصراع النزوعات بلغة لينين، ولا مكان لنسبية المعرفة، فالمكان كله لـ «المعرفة الخالصة»، التي تحرّر «العقل الثوري» من أشكال الحيرة المحتملة. ولعل استبداد اليقين، الذي يمليه منطق الرسالة، هو الذي أقام النص على جملة من الثنائيات الباترة: العلم والجهل، الفكر الثوري والفكر الرجعي، الوجود والعدم، والرقم والصفر، … ومع أن الجهاز المفهومي، الذي يمحو الجهل بالعلم، لا يشير إلى ثنائية الخير والشر، فهي قائمة هناك، تتلوها ثنائية النصر والهزيمة، لأن «اليقين العلمي» يخلق الواقع ويعيد تشكيله كما يريد.

يقول مهدي: «فالصراع إذن بين العلمي والإيديولوجي في إعادة إنتاج المعرفة صراع مستمر بين قوى التغيير المعرفي الثوري وقوى الجمود والثبات والتماثل، « ص : 70». تعادل قوى التغيير المعرفي الثوري، في هذا القول، قوى التغيير السياسي الثوري، وتعادل هذه القوى، في شكليها، معشر الأخيار الذين يرثون الأرض. ومع أن مهدي كان يقول، قبل غيره، بتفاوت الحقول والأزمنة الاجتماعية، فقد دعاه حسه الرسولي، في زمن تخفّف من وعوده، إلى مطابقة النظرية بالحق، ومطابقة الطرفين بالحقيقة ـ المثال. تتراءى، في الحالين، طهرانية تنبذ المنقوص والنسبي، ونزعة صوفية تجعل العاشق امتداداً للمعشوق. وما العشق إلا الممارسة الثورية، في احتمالاتها المختلفة، التي تردّ إلى مثقف رومانسي، أراد أن يجسد الثورة والحزب والمعرفة، وكتب عن ماركسية منتصرة في زمن أفولها.

اشتق مهدي الثوريين من فكرة الثورة، فآمن بحزب يقتفي آثار الحقيقة، واشتق الواقع من نظرية ثورية فسّرت الفرق بين شرق بيروت وغربها بـ «التطور اللامتكافئ»، واشتق ما أراد من روح جمعت بين الصدق والشجاعة والبراءة. كان في ممارسته، وهي كلمة في قاموسه، ما يذكِّر بأشياء من السينمائي السوفياتي إيزنشتين والقائد الشيوعي الإيطالي «غرامشي»، وكان عنده ما يحوّر ما قالا به تحويراً يلائم روحه. قال السوفياتي «ينبغي أن تكون الحقيقة جزءاً من الأدوات التي تفتش عن الحقيقة»، وتحدث الإيطالي عن «المثقف الجمعي الذي هو الحزب في فئاته المختلفة». أعتقد مهدي أن الحزب هو الحقيقة، وأن جميع الحزبيين، في القمة والقاعدة، وجوه حقيقية للحزب السائر إلى الانتصار.

واعتقد أن هؤلاء جميعاً تجسيد للنظرية ـ المثال، سواء صرحوا بما يفعلون ـ أو تركوا أفكارهم «في حالة تطبيقية»، يعطيها الفيلسوف الحزبي صياغة نظرية مطابقة، كما فعل في كتابه «النظرية في الممارسة السياسية».

في مطلع السبعينيات الماضية، حين بدا الأفق واعداً، اجتهد مهدي في أن يكون «فيلسوف التحرر»، فكتب عن «نمط الإنتاج الكولونيالي»، الذي يعيد إنتاج أنظمة تعترف بمصالح الكون كله ولا تعترف بمصالح شعوبها، وعن «أزمة الحضارة العربية»، التي هي من أزمة أنظمة مستقرة ألغت معنى الأزمة ووطّدت الركود.

… وفي منتصف الثمانينات، حين كانت قوى التحرر سائرة إلى الغرق، آثر مهدي أن يوازن بين النظرية والتبشير، وان يجعل من «المثقف العضوي» مثقفاً رسولياً يرفع ألوية الخلاص ويموت في الطريق. مارس خياراً أخلاقياً أقنعه، وهو المغترب البريء المعزول، أنه مدعوم من جماهير واسعة تسير إلى النصر الأخير.

1 responses to “كلمات حول كتب مهدي عامل الأخير “نقد الفكر اليومي”

  1. HAMDI 20/05/2014 عند 04:15

    حتى لا ننساك وقد حلت ذكراك… أيها المفكر العملاق، والثوري الصاخب، الشهيد “مهدي عامل”…
    وأنت ترقد في التابوت لا تنس أن شمسك ساطعة، لامعة… وعيوننا اليوم ترقبها وهي دامعة… دامعة…
    لا تنس أنك تحيا فكرا ومنهجا في خارطة تتجاوز جغرافيا العرب ومحيطات قاتليك/مغتاليك المظلمة!
    من أين نبدأ وأنت لم تنه بعد الصرح؟ وأي كلام يفي بالمطلوب قد نبعثه إليك وإلى الأيدي الآثمة التي إغتالتك رصاصاتها وأردتك “شهيدا” بشارع الجزائر ببيروت في مثل هذا اليوم من عام 1987؟
    حقا… نحتاج إلى الكثير من آكاليل الزهر، ووقفات الصمت لتأبينك في ذكراك، ذكرى استشهادك السابعة والعشرين (27).
    لن ننساك، لن نغفل من حسابات احتفاليتنا كرفاق وقراء يوم تأبينك هذا، والتقليد الذي سنه محبيك باعتبار:
    ﻳﻮﻡ 19 أﻳﺎﺭ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻋﺎﻡ “ﻳﻮﻡ ﺍﻻ‌ﻧﺘﺼﺎﺭ ﻟﺤﺮﻳﺔ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﻭﺍﻟﺒﺤﺚ ﺍﻟﻌﻠﻤﻲ”…

    عشت شهيدا… شهيدا…
    صاحب فكر غير مخصي

أضف تعليق