مــــــــــهـــــــدي عــــــــامــــــل

صفحة تختص بالمفكر الماركسي الشهيد مهدي عامل

النقد كسلاح ثوري عند مهدي عامل(الجزء الأول)


النقد كسلاح ثوري عند مهدي عامل(الجزء الأول)

كتابة: وليم

أيامٌ تفصلنا عن ذكرى إغتيال مفكرٍ (إن لم نقل فيلسوفًا بالمعنى الدولوزي للكلمة) قدّم للفكر والممارسة الثورييْن أسلوبًا للتنظير العلمي وللمارسة الكفاحية اليومية في سبيل إنتاج رؤية مفاهيمية وعملية بديلة تقطع مع الاساليب المفاهيمية والعملية المهيمنة في لبنان ومواطن نمط الانتاج الكولونيالي. أُغتيل مهدي عامل برصاصات ما زالت حتى اليوم تغتال (من بنادق الاعداء او الحلفاء او حتى الخلفاء ومن يدّعي البنوّة) بصيغ مختلفة ما أراده مهدي من حزبٍ ثوريٍ، وممارسة سياسية طبقية مستقلة وفكرٍ نقدي تفتح الدرب امام خطوة الانتقال من مجتمع انظمة القمع والاغتراب والسلعية والازمات الدورية الى مجتمع الانظمة الإنسانية الحرة الديموقراطية.

ما أراده مهدي في كتاباته، في جولاته التثقيفية التحريضية، وما أراده من بقائه في بيروت مبتسمًا ساخرًا من مغتالي الفكر النقدي الثوري، ما أراده ما يزال راهنًا. فمهما علت أصوات “الانتصارات” المجلجلة لحركات ظلامية الجوهر او لأنظمة “تقدمية” او قمعية، ومهما تعاظمت الدعوات الى نبذ الأيديولوجيات واعلان موتها وإنتهاء التاريخ او الانسان، ومهما توسّع الفكر الرجعي أفرادًا و نُظُمًا اوالتبعي الموهوم أنساقًا فكريةً تتخفّى خلف قناع الحداثة واللبرلة والديموقراطية وحتى “الماركسية”، تظلّ لأطروحات مهدي عامل بجوهرها الحي راهنيتها الحاضرة والمُستشرِفة مستقبلاً، تقرأ الحاضر وتؤسس للغد. فأين تتبدّى أهمية وراهنية اطروحات الفكر “المهدوي العاملي”، عندما تتخلص من ترسباتها الايديولوجية او الحزبية “الخشنة” الضيقة؟

من يقرأ مهدي عامل يلمس عنده هذه القدرة الخطيرة على تفكيك القول وتحطيم سكونية المفهوم. لم يقرأ مهدي المفاهيم بانسلاخها من واقعها المادي حيث نبتت ونمت، وفي هذا عودٌ الى تقليدٌ ماركسي بامتياز. وكماركس، حاول مهدي دخول ساحات المفاهيم بدْءًا بمفاهيمٍ تبدو للوهلة الاولى بديهية للثوري في وجودها وسياقها. هكذا تعامل مهدي مثلاً مع مفاهيم “الشرق والغرب”، “التبعية”، “الاصالة”، “التناقض”، “الحرب الأهلية اللبنانية”،”الاسلام”،”الثورة”،”الطائفية”،”الدولة الطائفية”،”العيش المشترك”،”الوحدة الوطنية”..ألخ…وهي مفاهيم كما نرى ما زالت راهنة وراهنة جدًا. لم يتقبّل مهدي هذه المفاهيم بإعتبارها بديهيات للمفكر. قام بتفكيكها، مناقشًا مجادلاً، طارحًا الاسئلة والاشكاليات. ومن ثم قام بخطوة كشف الغطاء عمّا ما تحاول إخفائه هذه المفاهيم من تبعية للفكر البرجوازي المسيطر او من توهّم الانفلات من سطوة هذا الفكر. يرفض مهدي مثلاً مقولة “مجتمع الطوائف” في الحديث عن لبنان، وهي مقولة كثيرًا ما تردد اليوم حتى في أوساط الماركسيين او الشيوعيين؛ يرفض مهدي هذه المقولة-الفخ، يفككها بتأنٍّ ليصل الى لبّها بإعتبارها مقولةً لأيديولوجية البرجوازية الكولونيالية اللبنانية في محاولتها إزاحة الصراع السياسي عن محوره الطبقي لتنتفي عندها محاولة الانطلاق في تفسير المجتمع اللبناني بإعتباره مجتمع طبقات إجتماعية متناحرة وليس مجتمع طوائف دينية متصارعة حينًا او متعايشة حينًا آخر.وفي هذا الاطار مثلاً، نتلمس براعة مهدي عامل النقدية التحليلية في كشفه السر عن مقولات كـ”الطائفية” و “العيش المشترك” و”الوحدة الوطنية”. فالطائفية ليست كما تريد البرجوازية الكولونيالية الحاكمة في لبنان ان توهم نقيضها الطبقي باعتبارها نمطًا من الحياة الفردية والمجتمعية، أو فكرًا يهيمن على كل مواطني لبنان منذ تأسيس هذا البلد او حتى قبل التأسيس، أو بإعتبارها حُكمًا شعورًا يتغلغل في ذات كل لبناني منذ ولادته حتى مماته وكأنها “طبعٌ لبناني خاص ومتميز”! وليس ما يسمّى العيش المشترك بمجرد حالة من الوئام والتراضي والسلام بين مكونات هذا المجتمع الطائفي، وليست الوحدة الوطنية وحدة مكونات هذا المجتمع تحت سقف الانتماء الى وطنٍ نهائيٍ بنته أقلياتٌ لاجئة او وافدة رأت في جبال لبنان وسهوله وساحله ملجأً لحرية الرأي والمعتقد ..والتجارة! وكأنّ مهدي يسخر من هذه التسميات وما تؤشّر اليه في الفكر المهيمن او في الفكر الموهوم: ليست الطائفية سوى العلاقة التي تحاول بها الطبقة البرجوازية الكولونيالية الحاكمة ان تربط المواطن بدولته (أي بها)، والمواطن هذا بالدرجة الاولى الطبقة العاملة، الطائفية ليست حياةً او حالةً سكونية نفسية، ليست طبعًا او سلوكًا فرديًا انما هي علاقة سياسية طبقية انتجتها الطبقة الحاكمة اللبنانية لما تؤسس هذه العلاقة من استحالة الاستقلال الطبقي السياسي لجمهور الطبقة العاملة وحلفائها عن الطبقة الكولونيالية في حركاتٍ سياسية موحدة ومستقلة قادرة على قيادة عملية التغيير الجذري للنظام القائم. أمّا العيش المشترك، فليس سوى انعكاسٍ لتعايش “الأجنحة” المتصارعة في الطبقة الكولونيالية، وهو تعايشٌ يسبق او يلحق صراع الهيمنة للسيطرة بين هذه الاجنحة التي تُصبِغ نفسها صبغةً طائفية دينية أيضًا، والتي تحدد نفسها (أحزابًا وقوى وشخصياتٍ) بإعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للجماهير بما هي طوائف وليست بالمرة طبقات اجتماعية. كما ان الوحدة الوطنية (وما ينضوي تحتها من مقولات حكومة الوحدة الوطنية او حكومة شراكة وطنية او وفاقٍ..) ليست في الجوهر سوى وحدة اطراف الطبقة المسيطرة في وحدة صراع الهيمنة بينها كأطراف.

جميلٌ جدًا هذا التفكيك المفاهيمي القاسي الذي مارسه مهدي في كتابه “أزمة حضارة ام ازمة برجوازيات عربية” حيث ان ما يتوهمه البعض من المفكرين العرب مقولاتٍ بديهية (والطوطم الاكبر لهذه المقولات مقولة الشرق والغرب) ينطلقون منها في محاولتهم تأسيس “نهضة” حضارية عربية،او في محاولتهم الرد على السؤالين:لماذا تأخر العرب او الشرق وتقدم الاوروبيون او الغرب؟ وكيف يمكن ان يتقدم اولئك؟،إذًا ما يتوهمه هؤلاء بديهيًا ينهار أمام مطرقة النقد الديالكتيكي التي يمسك مهدي بها، ليكشف “الشيء في ذاته” الماهية المتخفية خلف ما يظهر لنا للوهلة الاولى جوهرًا مكتفيًا بذاته لذاته، وليتكشف زيف هذه المقولات الجامدة فعليًا: فثنائية الشرق والغرب (وما يليها من توصيفات ثنائية ساكنة) ليست سوى مقولةٍ “غربية” (إستشراقيةٍ إمبرياليةٍ ورجعية بالتحديد) في نهاية المطاف، وتفكيك هذه المقولة سيكشف النهاية المأساوية لفكر حاملها، وهي انعكاس آخر لعجز الفكر البرجوازي العربي عن الخروج من مأزقه وعدم قدرته على قراءة الواقع الملموس كما هو بحركته وصيرورته الجدلية وازماته الاجتماعية وتبعيته. وهذا ما يظهر ايضًا بكيفية تعامل المثقفون العرب مع مفهوم التراث مثلاً؛ فمنطق الفكر البرجوازي العربي لا يستطع ان يتعامل مع التراث الا من منطلقين: إمّا القطع المطلق أو إعادة الإحياء، وفي المنطقين وهمٌ لا يصدر عن التراث بذاته بل عن معالجة هذا الفكر للتراث بحيث يعيد انتاجه في “شكلٍ يظهر فيه –اي التراث- كأنه بذاته في جمودٍ او تحنطٍ أو تكرار”،وهكذا فالمشكلة ليست في التراث اي ليست “تراثية” بل في كيفية تعامل المفكرين العرب مع هذا التراث. وفي نقده لمفهوم التخلف يبيّن لنا مهدي تلك الحلقة الدائرية المفرغة التي يسقط بها الفكر العربي المعاصر، فهذا يرى في التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي نتاج التخلف العقلي، وهذا التخلف العقلي يعود الى كون هذا العقل ليس معاصِرًا، وكونه غير معاصر نتاج لكونه متخلفًا وهكذا دواليك! اذاً هي رؤية غيبية بالاساس تحكم هذا الفكر العربي المعاصر، تبتعد به عن الواقع المادي ليصبح حل المشكلة المطروحة حلاً فكريًا مثالي الطابع، وهو حلٌ مثاليٌ بالضرورة من حيث أنه مظهر من مظاهر أيديولوجيا البرجوازية العربية في تبعيتها البنيوية للرأسمالية العالمية.

(إنتهى الجزء الاول)

1 responses to “النقد كسلاح ثوري عند مهدي عامل(الجزء الأول)

  1. siror 3amel 22/05/2013 عند 19:01

    thank you Mahdi amel , thx from mororcco ❤

أضف تعليق